الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:

أمة الحبِّ المشترك والودِّ الصّافي

إنَّ هذه الأُمّة المباركة – أُمّة الإسلام – تقوم في بناءها بعد الإيمان بالله ؛ على عواطف الحبِّ المشترك، والودِّ الصافي، والبعد عن الأحقاد والضَّغائن. (مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى). متفق عليه من حديث النعمان.
إنَّ أُمّة الإسلام موصوفة في كتاب ربّها من بعد سلفها الأخيار من المهاجرين والأنصار، في قوله تعالى: { والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءآمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم }.
وهذا الأمر العظيم (إصلاح ذات البيْن وسلامة الصدر) جاءت الشريعة المطهرة بالأمر بهما، والحث عليهما ؛ أنْ يكون صدرك على أخيك سليماً، ليس فيه غلّ، ولا حقد ، ولا حسد … قلب مخْموم كما جاء في بعض الأحاديث.
لقد أثنى الله بسبب سلامة الصدور على أهل المدينة الأنصار، ومجّدهم لاتّصافهم به، في قرآنٍ يُتلى إلى يوم القيامة، يقول سبحانه: { والذين تبوؤا الدَّارَ والإيمانَ من قبلهم يُحبّون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجةً مما أوتوا ويُؤْثرون على أنْفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يُوقَ شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون }.

آيات قرآنية في الصلح

– قال الله تعالى: (لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقةٍ أو معروفٍ أو إصلاحٍ بين النَّاس).
– وقال سبحانه: (والصلح خير).
– وقال: (وإنْ طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإنْ بغتْ إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيىء إلى أمر الله فإنْ فاءتْ فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إنَّ الله يحبُّ الله المقسطين).

أحاديث الإصلاح

– عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصَّدقة. قالوا: بلى. قال: إصلاح ذات البيْن؛ وفساد ذات البيْن الحالقة ) .
-ويُروى أنه صلى الله عليه وسلّم قال: ( هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدِّين ) .
-وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (  إياكم وسوء ذات البيْن؛ فإنها الحالقة ) . أخرجه الترمذي.
وعن عبادة بن عمير بن عوف قال: قال لي أبو أيوب رضي الله عنه: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ( يا أبا أيوب، ألا أدلك على صدقة يحبُّها الله ورسوله؛ تصلح بين الناس إذا تباغضوا وتفاسدوا ) . أخرجه الطبراني في المعجم الكبير.

أقسام الصلح

1 – صلح المسلم مع الكافر.
2 – الصلح بين الزوجين.
3 – الصلح بين الفئة الباغية والعادل.
4 – الصلح بين المتغاضبين.
5 – الصلح في الجراح كالعفو على مال.
6 – الصلح لقطع الخصومة إذا وقعت المزاحمة إما في الأملاك أو في المشتركات كالشوارع.

الله تعالى يُصلح بين المؤمنين يوم القيامة

روى أبو يعلى في المسند من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدتْ ثناياه!! فقال عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأُمي؟
فقال: رجلان من أُمتي جثيا بين يدي ربِّ العزة تبارك وتعالى، فقال أحدهما: يا ربِّ خذ لي مظلمتي من أخي… قال الله تعالى: أعط أخاك مظلمته. قال: يا ربِّ لم يبق من حسناتي شيء!
قال – يعني الطالب -: ربِّ فلْيحمل عني من أوزاري!
قال: ففاضتْ عينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالبكاء، ثم قال: إنَّ ذلك ليوم عظيم، يحتاج الناس إلى من يحمل عنهم أوزارهم!! فقال الله للطالب: ارفع بصرك وانظر في الجنان، فرفع رأسه. فقال: يا ربِّ! أرى مدائن من فضة، وقصوراً من ذهب مكلَّلة باللؤلؤ؛ لأي نبيٍّ هذا؟ لأي صدِّيقٍ هذا؟ لأي شهيدٍ هذا؟
قال: هذا لمن أعطى ثمنه. قال: يا ربِّ ومن يملك ثمنه؟
قال: تعفو عن أخيك. قال: يا ربِّ، فإني عفوتُ عنه!!! قال الله تعالى: خذ بيد أخيك فأدخلا الجنة.
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : [فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم؛ فإنَّ الله يصلح بين المؤمنين].

لأهمية الإصلاح أباحت الشريعة الكذب لأجله

عن أُمِّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: ( ليس الكذَّاب الذي يُصلح بين الناس، فيَنْمي خيرا أو يقول خيراً ) متفق عليه.
وفي رواية مسلمٍ زادتْ: (  ولم أسمعه رخَّصَ في شيء مما يقوله الناس إلا في ثلاث: تعني الحربَ، والإصلاحَ بين الناس، وحديثَ الرجل امرأته، وحديثَ المرأة زوجها ).

لا ينجو يوم القيامة إلا صاحب القلب السليم

قال الله تعالى على لسان إبراهيم عليه السلام: [ولا تخزني يوم يُبعثون* يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ]. والمراد بالقلب السليم هاهنا: ذلك القلب الذي سلم من الشرك كبيره وصغيره، وسلم من النفاق والبدعة، ومن الغل والحسد على إخوانه المؤمنين.
ولذا كان أصحاب الجنة متصفين بهذه الصفة: [ ونزعنا ما في صدورهم من غلٍّ إخواناً على سُرر متقابلين ].

أحاديث في سلامة الصدور

– عن أنس بن مالكٍ رضي الله عنه قال:
بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنْطف لحيته ماءًا من وضوئه معلَّق نعليه في يده الشمال… فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يطلع عليكم رجل من أهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مرتبته الأولى… فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع ذلك الرجل على مرتبته الأولى!!

فلما قام رسول الله اتَّبعه عبد الله بن عمرو بن العاصي فقال:
إني لاحيتُ أبي، فأقسمتُ أن لا أدخلَ عليه ثلاث ليالٍ؛ فإنْ رأيت أن تؤويني إليك حتى تحلَّ يميني فعلتُ. فقال: نعم.
قال أنس: فكان عبد الله بن عمرو بن العاصي يُحدِّث أنه بات معه ليلةً أو ثلاث ليال، فلم يره يقوم من الليل بشيء غير أنه إذا انقلب على فراشه ذكر الله وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر فيسبغ الوضوء.
قال عبد الله: غير أني لا أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الثلاث ليال كدتُ أحتقر عمله‍، قلت: يا عبد الله، إنه لم يكن بيني وبين والدي غضبَ هِجْرةٍ، ولكني سمعت رسول الله يقول لك ثلاث مرات في ثلاث مجالس: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله؟
قال: ما هو إلا ما رأيتَ، فانصرفتُ عنه، فلما وليتُ دعاني فقال: (ما هو إلا ما رأيتَ، غير أني لا أجد في نفسي غلاً لأحد من المسلمين، ولا أحسده على خيرٍ أعطاه الله إياه‍‍!).
قال عبد الله بن عمرو: (هذه التي بلغتْ بك، وهي التي لا نطيق).
– وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم : (إنَّ الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؛ ولكن في التحريش بينهم). رواه مسلم.
-وعن أبي هريرة رضي الله عنه: (لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخواناً). خرَّجه مسلم.
-وعن أبي خراش السلمي عند أحمد وأبي داود والحاكم وصححه ،ووافقه الذهبي؛ يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلّم : (من هجر أخاه سنةً كان كسفك دمه).

سلامة الصُّدور من منازل إياك نعبد وإياك نستعين

-وقد عدَّ ابن القيم – رحمه الله – سلامة الصَّدر، من منازل إياك نعبد وإياك نستعين في كتابه  مدارج السالكين ، وقال:
(ومن أراد فهم هذه الدرجة كما ينبغي فلينظرْ إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس يجدها بعينها).
لماذا؟ لأنَّ الله بعث الله محمداً رضي الله عنه رحمةً وهدى، فلقد وَسِعَ خلقه الناس سهولةً ورفقاً، ونضحتْ يداه بالعطايا كرماً وجوداً، أبرّهم قلباً، وأصدقهم لهجةً، وأقربهم رحماً.
وإنَّ من أخصّ خصائصه وأكرم سجاياه؛ أنْ لازمته تلك الفضائل الزاكية، والأخلاق العالية في أشدّ الأوقات وأحلك الظروف، شُجّ رأسه، وكُسرت رباعيته في غزوة أحد، فقيل له في هذا الحال العصيب : ألا تدعو على المشركين؟ فما هو إلا أن تدفّق رفقه، وطغت رحمته، وفاضت طبيعته العالية وسجيته الكريمة بما يلتمس فيه العذر لهؤلاء، فكان مما قال :  اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون ) .
وقال في مقام آخر : ( إنّما بُعثت رحمةً ولم أبعث لعّاناً « وصدق الله العظيم: { وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين }.

النبي صلى الله عليه وسلّم وسلامة الصَّدر

يكفى أنْ نذكر مثالين على ذلك:
1 – ثبت في » الصحيحين« من حديث أنس بن مالك قال:
(كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم وعليه برد نجرانيّ غليظ الحاشية، فأدركه أعرابيّ، فجبذه بردائه جبذةً شديدةً، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلّم قد أثّرت بها حاشية البرد من شدة جبْدته، ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك!! فالتفتَ إليه رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم ضحك، ثم أَمَرَ له بعطاء).
إنها القلوب الكبيرة قلّما تستجيشها دوافع القسوة عن التعقّل والحِلم، إنها إلى العفو والصفح أقرب منها إلى الانتقام والبطش.
2 – أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال :
(  بال أعرابي في المسجد فقام إليه الناس ليقعوا به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم : دعوه لا تزرموه، وأهريقوا على بوله ذنوباً من ماء – أي دلواً من ماء – فإنّما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، وسكنوا ولا تنفروا  ) .
زاد الترمذي :  ثم قال الأعرابي : اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً. فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم لقد تحجّرت واسعا . أولئك هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام، عنوان الرحمة والشفقة، والقدوة في الصفح والمغفرة.

الأنبياء الكرام – عليهم الصلاة والسلام – من أصحاب القلوب السليمة

نوح عليه السلام:
هاهو – أبو الأنبياء – نوح عليه السلام يقول في مجادلته لقومه : { يا قوم ليس بي ضلالة ولكنِّي رسولٌ من ربِّ العالمين. أبلَّغكم رسالات ربِّي وأنصحُ لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أَوَ عجبتم أنْ جاءكم ذِكرٌ من ربِّكم على رجلٍ منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون }.
إنّه جواب ملؤه الرحمة والشفقة والصدق في النصح واللطف في الخطاب.

موسى وهارون عليهما الصلاة والسلام:
وليس بعد طغيان فرعون من طغيان وقد قال الله لموسى وهارون عليهما السلام : { اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولاً ليّناً لعلَّه يتذكّرُ أو يخشى }. إنها القلوب الكبيرة قلّما تستجيشها دوافع القسوة عن التعقّل والحِلم، إنها إلى العفو والصفح أقرب منها إلى الانتقام والبطش.

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم من أعظم الناس سلامةً للصدُّور:
هكذا هم أصحاب القلوب الكبيرة، التي لا تعرف الغلَّ أو الحقدَ أو الحسدَ… وهكذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، وهاك أمثلةٌ سريعة:
1 – قال أبو الدرداء رضي الله عنه :
كنت جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلّم إذ أقبل أبو بكر آخذاً بطرف ثوبه، حتى أبدى عن ركبتيه! فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : (أمّا صاحبكم فقد غامر!). فسلَّم، وقال: يا رسول الله! إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء! فأسرعتُ إليه ثم ندمتُ! فسألته أنْ يغفر لي، فأبى عليَّ! فأقبلتُ إليك… فقال: (يفغر الله لك يا أبا بكر ؛ ثلاثاً).
ثم إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا.
فأتى إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ، فجعل وجهُ النبي صلى الله عليه وسلّم يتمعّر! حتى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه! فقال: (يا رسول الله! والله أنا كنت أظلم) ؛ مرتين. فقال النبي صلى الله عليه وسلّم : (إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبتَ! وقال أبو بكر: صدق … وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي)؛ مرتين … فما أُوذي بعدها. خرَّجه البخاري.
2 – عن عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه
 أنَّ أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب، وبلال، في نفرٍ، فقالوا: (ما أخذت سيوف الله من عدو الله مأخذها).
فقال أبو بكر رضي الله عنه: (أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم؟ !). فأتى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: (يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم؟ لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك!).
فأتاهم فقال: (يا إخوتاه! آغضبتكم؟ ). قالوا: (لا، يغفر الله لك يا أُخَيّ).
وهذا الحديث أصلٌ في مشروعية التسامح والتصافح.
3 – وقال ابن عباس بعد أن شتمه رجل:
(إنك لتشتمني وفيَّ ثلاثُ خصال: إني لآتي على الآية في كتاب الله عز وجل فلوددتُ أنّ جميع الناس يعلمون منها ما أعلم …وإني لأسمع بالحاكم من حكَّام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلّي لا أُقاضي إليه أبدًا … وإني لأسمع أنّ الغيثَ قد أصاب بلدًا من بلدان المسلمين فأفرح به، وما لي من سائمة!).
4 – وهذا أبو دجانة رضي الله عنه :
دخلوا عليه في مرضه ووجهه يتهلل! فقالوا له: ما لوجهك يتهلل؟
فقال: (ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنتين:
كنت لا أتكلَّم فيما لا يعنيني، وكان قلبي للمسلمين سليمًا).
5 – وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
دخل عليه عمران بن طلحة بن عبيد الله بعد وقعة الجمل – وقد استشهد أبوه طلحة رضي الله عنه ؛ فرحّب به، ثم أدناه، ثم قال: (إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك ممن قال فيهم: {ونزعنا ما في صدورهم من غلٍ إخوانًا على سررٍ متقابلين}.
6 – ولقد سار العلماء الربانيون على هذا الهدي،
وتلك الطريقة، من الصفح والعفو وسلامة الصدر: قال ابن القيم رحمه الله -:
(وما رأيت أحدًا قطُّ أجمع لهذه الخصال من شيخ الإسلام ابن تيمية – قدّس الله روحه -، وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: ( وددت أني لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه! وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قطُّ، وكان يدعو لهم).
قال: (وجئت يومًا مبشّرًا له بموتِ أكبر أعداءه، وأشدّهم عداوةً وأذىً له، فنهرني، وتنكّر لي واسترجع. ثم قام من فوره إلى أهل بيته – أي ذلك الخصم الذي مات – فعزّاهم، وقال: (أنا لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه) … فسُّروا به ودعوا له، وعظّموا هذه الحال منه، فرحمه الله ورضي عنه).
إنَّ الرجل العظيم كلما ارتفع إلى آفاق الكمال اتّسع صدره وامتدّ حلمه، وتطلّب للناس الأعذار، والتمس لأغلاطهم المسوغات، وأخذهم بالأرفق من حالهم.
ويحسن بي في هذا المقام أن أذكر موقفاً طالما سمعناه في الفترة الماضية، وأكثر العلماء والباحثون من التنويه بشأنه، ألا وهو موقف سماحة الإمام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز – رحمه الله تعالى – مع ذلك الرجل الخرجي الذي سبَّه وأغلظ له القول، وملخص الموقف:
أنَّ رجلاً من أهل الخرج سبَّ الشيخ ابن باز – رحمه الله – وأغلظ له في القول إبان توليه قضاء الخرج (1357 – 1371هـ)، واشتهر ذلك الأمر في البلد، وما مضى وقت يسير إلا وخرج الشيخ إلى الحجِّ على عادته، فأراد الله في هذه الفترة أن يختار وديعته، فمات ذلك الرجل أثناء سفر الشيخ إلى الحج ‍! فلمَّا قُدِّم الرجل ليُصلَّى عليه أبى إمام الجماعة أن يصلي عليه، وقال: هذا الذي سبَّ الشيخ وأغلظ له القول فلا أُصلِّي عليه! فتقدَّم أحد الناس فصلَّى عليه.
فلمَّا رجع الشيخ من الحج وسمع بالخبر عاتب الإمام جدًّا على فعله، ولم يرتض ما صنع… ثم إنه سأل عن قبر الرجل، فأتاه فصلَّى عليه في المقبرة ثم دعا له.

أمور تساعدك على سلامة الصدر، وهي من مظاهر سماحة النفس

1 – أن تقرّب من يعصيك.
2 – أن تكرم من يؤذيك.
3 – أنْ تعتذر إلى من يجني عليك.
4 – ترك الخصومة.
5 – التغافل عن الزلة.
6 – نسيان الأذية.

استصحب الرِّفق واللين من غير مداهنة ولا مجاملة

إنّ حقاً على المسلمين جميعاً أن يستصحبوا الرفق واللين في الأمر كله من غير مداهنة ولا مجاملة، ومن غير غمط ولا ظلم.
إنّ على الأب الشفيق والأم الرؤوم، وإنّ على الأزواج وأصحاب المسئوليات أن يرفقوا بمن تحت أيديهم، لا يأخذون إلا بحق، ولا يدفعون إلا بالحسنى، ولا يأمرون إلا بما يُستطاع : { لا يُكلِّفُ الله نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا }.
ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه، وإنّ الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، بذلك صحّت الأخبار عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلّم .

اقبل الميسور من أخلاق الناس

إنّ العقل والحكمة والمعرفة بطبائع الأمور تقتضي تقبُّل الميسور من أخلاق الناس، والرضا بالظاهر من أحوالهم، وعدم التقصّي على سرائرهم أو تتبع دخائلهم، كما تقتضي قبول أعذارهم والغض عن هفواتهم، وحملهم على السلامة وحسن النية. إذا وقعت هفوة أو حصلت زلة فليس من الأدب وليس من الخلق الحسن المسارعة إلى هتكها والتعجل في كشفها فضلاً عن التحدث بها وإفشائها.
بل لقد قيل : اجتهدوا في سترة العصاة فإنّ ظهور معاصيهم عيب في أهل الإسلام.
كيف يسوغ لمسلم أن يتشاغل بالبحث عن العيوب ورجم الناس بها، بل لعله قد يُخْفي ما يعلم من صالح القول والعمل.
هل وظيفة المسلم أن يلوك أخطاء الناس ويتتبّع عثراتهم، ويعمى أن يرى حسناتهم وكأنه لا يعرف ولا يرى إلا كفة السيئات. أليس في عيوبه ما يشغله عن عيوب الناس؟!

أحبَّ الخير لإخوانك المسلمين

إنَّ المسلم الناصح شفوق بإخوانه، رفيق بهم، يحب لهم الخير كما يحبه لنفسه، ويجتهد لهم في النصح كما يجتهد لنفسه …. أما الفظ القاسي، صاحب القلب الغليظ، فقد قضت سنة الله نفرة الناس منه، فلا تقبل منه دعوة، ولا يسمع منه توجيه، ولا يرتاح له جليس : ( فبما رحمةٍ من اللهِ لنتَ لهم ولو كنتَ فظَّاً غليظَ القلبِ لانفضُّوا مِن حولك فاعفُ عنهم واستغفر لهم ).
وعلى قدر ما يمسك الإنسان نفسه ويكظم غيظه ويملك لسانه، تَعْظُم منزلته عند الله وعند الناس. وعلى قدر ما يتجاوز عن الهفوات ويقيل من العثرات، تدوم مودّته، ويأنس الناس به. إنّكم لن تَسَعوا الناس بأموالكم ولكن تسعوهم بأخلاقكم، يسعهم منكم بسط المحيّا وطلاقة الوجه.

لا ترى لنفسك فضلاً على غيرك

إنّ المخلص في المودّة، الصادق في المحبة، لا يرى لنفسه فضلاً على غيره، ولا يكون عوناً للشيطان على صاحبه.
رُوي أنّ أبا الدرداء رضي الله عنه مرَّ على رجل قد أصاب ذنباً والناس يسبّونه فقال : أرأيتم لو وجدتموه في قليب – أي في بئر – ألم تكونوا مستخرجيه؟ قالوا : بلى. قال : فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم.

اجعل – يا رعاك الله – هذه الآية نصْبَ عينيك

( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌ حميم. وما يُلقَّاها إلا الذين صبروا وما يُلقَّاها إلا ذو حظٍّ عظيم. وإمَّا ينزغنَّك من الشيطانِ نَزْغٌ فاسْتعذْ بالله إنَّه هو السَّميع العليم ).

أمور تتنافى مع سلامة الصُّدر، وهي من لوازم الحقد،
ومظاهر الحسد عياذا بالله، والواجب علينا اجتنابها

1- سوء الظن.
2 – تتبع العورات.
3 – الهمز واللمز.
4 – تعيير الناس وشيوع السباب.
5 – التعريض أو التصريح بالمعايب النفسية والبدنية.
6 – الغيبة والنميمة.
7 – تمني زوال النعمة من أخيه.
وكلُّ ذلك – أيها الكرام – يدلُّ على خبث الطويّة، ودناءة الهمَّة.

 

0 ردود

اترك رداً

تريد المشاركة في هذا النقاش
شارك إن أردت
Feel free to contribute!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *